تقرير تسول النساء والأطفال بغزة.. ظاهرة ملفتة أم عابرة؟

التسول في غزة
التسول في غزة

لا يختلف إثنان على أن ظاهرة "التسول" تهدد المجتمعات وتنذر بالعديد من العواقب، فهي ظاهرة مشينـة تقتل عزة النفس وتميت النخوة، وترفع نسبة الإعالة والبطالة، وتؤدي إلى الانحـراف الأخلاقي والفكـري.

ولكن ما الذي دفع هذه الظاهرة إلى الانتشار في المجتمع الفلسطيني، إلى حد امتهانها من بعض الأسر أو المجموعات المنظمة، واتباع أساليب مختلفة لكسب التعاطف، حتى وصل الحال إلى استغلال النساء والأطفال لأجل "الشحاتة"، وبالتالي استغلال براءتهم وربما أجسادهم.

ويُجرم قانون العقوبات الفلسطيني "التسول" باعتباره شكلاً من أشكال الكسب غير المشروع، فوفق الفقرة (ب) من المادة (193) فإنه من استعطى أو طلب الصدقة من الناس متذرعاً إلى ذلك بعرض جروحه أو عاهة فيه أو بأية وسيلة أخرى، سواء أكان متجولاً أم جالساً في محل عام.

وبحسب قانون الطفل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2004، المادة 43، فإنه يحظر استغلال الأطفال في التسول، كما يُمنع تشغيلهم في ظروف مخالفة للقانون أو تكليفهم بعمل من شأنه أن يعيق تعليمهم أو يضر بسلامتهم أو بصحتهم البدنية أو النفسية.

فتيات قاصرات

ومن الصعوبة بمكان إجراء مقابلة صحفية مع المتسولين، الذين يرفضون بشكل مطلق هذا النوع من الحديث المباشر، وذلك لعدة أسباب منها، تخوفهم من ملاحقة السلطات أو نفور المجتمع من صنيعهم، أو ربما تخوفهم من الفضيحة والتشهير بهم.

ولكن الأكثر صعوبة هنا، مقابلة المتسولات من النساء وخاصة "القاصرات" اللاتي هن موضع التركيز في تقرير موقع  "زوايا" الذي حصل على تسجيل صوتي –بشق الأنفس- لفتاة قاصرة كانت تتسول أمام أحد المطاعم الشهيرة غرب مدينة غزة قالت فيه بالعامية: "أنا بكون في المكان 3 أيام في الأسبوع، بروح الساعة 12 في الليل عشان أترزق (..) الشرطة أخذتنا قبل هيك وقلت إلهم أبويا معاه غضروف وهيني رجعت (..) الشرطة أخذتنا أكثر من عشرين مرة بيحبسونا، ومرة ودونا على  جمعية  خاصة بس عالفاضي (..) كل يوم بعملي 30 شيكل، وأمرار أكثر وبروح بالليل مع سواقين صحابنا (..) أنا باجي في الليل وبضلني موجودة  بالمكان ومرات بمكان ثاني (..) في بنات غيري بترزقوا بس أنا ما بعرفهم".

وأمام انتشار هذه الظاهرة، بادر المذيع الصحفي محمد العايدي، عبر برنامجه اليومي "نبض البلد" على إذاعة الشعب المحلية، إلى التحذير من انتشار وامتهان التسول "بشكل مبرمج" في قطاع غزة، وخاصة من قبل النساء والبنات القاصرات، محدداً مناطق بعينها لتجمع بعض المتسولات مثل " محيط مسجدي أبو خضرة  والعباس، ومجمع الشفاء الطبي، وأمام مدينة اللحوم وسط المدينة".

وأدلى العايدي لـ"زوايا" بشهادته ومعاينته، لتسول نساء "بنات وصبايا" في الأماكن سالفة الذكر وحتى خلال فترات متأخرة من الليل، متحدثاً عن موقف سابق عايشه فقال: "أنه ومجموعة من أصدقائه، استوقفوا بنات صغيرات يتسولن في محيط مقر الاتصالات وسط مدينة غزة، لسؤالهن عن سبب وجودهن في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وماهي إلا لحظات حتى اقترب منهم رجل وامرأة، وصفعا أكبر البنات على وجهها قائلين لها "مش قلنالكوا ما تقفوش ومتحكوش مع حدا" وانصرفا مع البنات جميعاً في الحال.

وأكمل العايدي: للأسف يصدر من بعض المستولات ما قال عنها "حركات غير مضبوطة تثير الانتباه وتحرك الغرائز لدى ضعاف النفوس، وربما تدفعهم لاستغلال ذلك لأغراض غير أخلاقية".

وتابع "هذا المشهد وغيره من الفتيات نراه في الطرقات، ليس لواحدة أو اثنتين أو ثلاثة، بل لأكثر وفي ساعات متأخرة من الليل"، متسائلاً "إحنا بنعرف وين بدهم يروحوا بعد هيك؟ (..) مين نيته عاطلة ومين نيته طيبة؟ (..) مين يتعامل بأخلاق حميدة ومين يتعامل بعكس ذلك؟ فهذه بلد والناس مختلفة فيها".

وشدد العايدي على أنه يجب ضبط هذه الظاهرة ومنع الفتيات من التسول، لأن ذلك يعكس صورة سيئة للبلد الذي يعيشون فيه، داعياً الجميع إلى أن يتوقف أمام مسؤولياته لإنهاء هذه الظاهرة والمشكلة التي أصبحت تأخذ أبعادا أخرى غير التسول.

وقال: "نتمنى من الحكومة في غزة والشرطة المنوط بها التنفيذ، أن تضبط المتسولين من الجنسين، كما يجب على المعنيين إيجاد حلول لهؤلاء المتسولين، فإذا كان فقيراً يجب مساعدته، وإذا كان يعمل بشكل منظم يجب البحث والتحري والوقوف على أصل الموضوع ومعالجته جذريا"، حسب تعبيره.

مسجلين "سوابق"

بدوره، ذكر العقيد أيمن البطنيجي المتحدث باسم الشرطة، أنهم شكلوا قسما لمتابعة مشكلة التسول بدقة، وذلك بمساعدة أفراد من الشرطة من المرور والشرطة النظامية، مشيراً إلى أنه "تم توقيف العديد من الحالات التي تقوم بالتسول في مرات سابقة".

وأكد البطنيجي في حديث لـ"زوايا" أنه تبين من خلال الفحص والتحري عن الكثير من المتسولين، بأنهم يتلقون مساعدات من وزارة الشؤون الاجتماعية، فضلاً أن بعضاً من المتسولين الذين تم توقيفهم "ارتكبوا جرائم سابقة ومسجلين من أصحاب السوابق".

وقال "على كل الأحوال، تم توقيف عدد من هؤلاء المتسولين من قبل النيابة العامة، ونتمنى أن تكون الإجراءات حازمة بحقهم لردعهم عن ممارسة هذه الظاهرة".

وأضاف "بصراحة واجبنا ينحصر في الإطار التنفيذي لملاحقة وضبط هؤلاء ومنع تواجدهم في الشوارع، أما الدور الملقى على عاتق غيرنا، هو دراسة حالتهم ومساعدة المحتاجين منهم، عبر المؤسسات الحكومية والأهلية المختصة وغيرها".

وأردف ظاهرة التسول تجمع أسوأ من هم في المجتمع، وإياكم أن تعتقدوا في لحظة أنهم بحاجة إلى المال"، معرجاً على بعض الأساليب التي يتبعها المتسولون لاستعطاف المواطنين، ومنها ادعاء المتسولون الكبار سواء من الرجال أو النساء وحتى الأولاد والبنات القاصرات بعدم امتلاك ثمن الطعام أو أجرة المواصلات وغير ذلك من الأكاذيب، على حد وصف المتحدث باسم الشرطة.

وعبر "البطنيجي" عن قلقه من انتشار واستمرار ظاهرة التسول، والتي باتت تشكل خطراً ويتأذى منها المجتمع الفلسطيني، خاصة المتسولون من البنات والأطفال الذين يُلحون بالتسول على المواطنين في الشوارع ويتجولون على البيوت للأسف، منبهاً إلى عدم التعاطي والاستجابة لهم، علماً أن من المتسولين الصغار سواء من الأولاد أو البنات "ضحايا يدفعهم ذويهم للتسول بالإكراه".

وأشار إلى أن فئة كبيرة من المجتمع باتت تدرك الأساليب المختلفة التي يتبعها المتسولون، وصاروا يمنعوا أنفسهم من تقديم المساعدة لهم، حتى لا تستشري هذه الظاهرة وحتى لا يستمروا في التسول.

وأردف "ما يقلق الجمهور الفلسطيني ومن خلفه الجهات الرسمية الحكومية وجود بنات وصبايا يمتهن ظاهرة التسول والخشية من استغلالهن"، مؤكداً أنهم في طور الاستمرار بالتحرك في ملاحقة هذه الظاهرة ومن يستغلها لأهداف دنيئة.

ونوه البطنيجي إلى أن المتسولين ومن يدفعوهم لذلك من عائلاتهم والمقربين منهم "ينشطون في مناطق ومواسم محددة مثل أيام صرف الرواتب، وفي شهر رمضان والموسم الصيفي"، مضيفاً "لاحظنا انتماء معظم المتسولين لعائلات شبه مشردة بإرادتها، ومنهم من لهم سوابق جنائية، أو عليهم قضايا أخلاقية"، على حد تعبيره.

ودعا البطنيجي المواطنين إلى التحلي بالمسؤولية ومساعدتهم في إنهاء ظاهرة التسول الموجودة في المجتمع، عاداً وجود المتسولين خطراً يعطل صفو وسكينة المجتمع، فضلاً عن أن بعضهم يتعدون بالسرقة على الممتلكات العامة والخاصة.

يزيدون وينقصون

وللوقوف أكثر عند ظاهرة التسول والتعرف على حجم ومدى انتشارها في قطاع غزة، فقد أكدت منى العجلة مدير عام وحدة شئون المرأة والأسرة بوزارة التنمية الاجتماعية في غزة، أنه لا يوجد عدد ثابت للمتسولين وخاصة الأطفال، مشيرة إلى أن "المستولين ما بين زيادة ونقصان".

وأرجعت العجلة في حديثها لـ"زوايا" ذلك إلى عوامل عدة، منها التسول الموسمي الذي ينشط في الإجازة المدرسية والأعياد، حيث تنحصر الأعداد مع بداية العام الدراسي، مشيرة إلى أن "المتسولين من الاناث عددهن محدود جداً يقتصر على كم فتاة تتسول برفقة أحد والديها ويمكن اعتبارها حالات فردية".

وحول ما إذا كان التسول تديره جماعة أو شبكة منظمة لتشغيل البنات تحديداً، فقد اعتبرتها حالات فردية عفوية وليست ظاهرة، مؤكدة أن وزارتها بالتعاون مع وزارة الداخلية لم يرصدوا أية جماعات منظمة لتشغيل الفتيات.

وأشارت العجلة إلى أن هناك عددا من الأسباب التي تدفع الأطفال للتسول ومنها الاقتصادية،  ولكنها ليست السبب الرئيسي، وهناك الأسباب الأسرية التي تعتبر أكثر تأثيراً من غيرها في دفع الطفل للتسول كالتفكك الأسري والطلاق وتعاطي أحد الوالدين المخدرات أو سجن أحدهما، فضلاً عن الانحراف الأخلاقي داخل الأسرة.

وفيما يتعلق ببرامج وزارة التنمية للمعالجة هذه الظاهرة ومدى تعاون الجهات داخل الحكومة ومن خارجها للمبادرة والمساهمة في ذلك، فقد أوضحت العجلة أن وزارتها تحرص على العمل لمكافحة التسول وخاصة من الأطفال، لافتة إلى أنهم نفذوا خلال العام الماضي مشروعاً للحد من ظاهرة التسول وذلك بالتنسيق مع وزارتي الداخلية والتربية والتعليم، ولكنه توقف أكثر من مرة بسبب جائحة كورونا التي انتشرت في القطاع منذ عام ونصف.

وذكرت العجلة أنهم نفذوا العديد من حملات التوعية الاعلامية لتوضيح مخاطر التسول، وكذلك القيام بحملات ميدانية لجمع المتسولين من قبل وزارة الداخلية، مبينة أنه تم إعادة عدد من طلاب المدارس من الأطفال المتسولين لمقاعد الدراسة، كما تم إلحاق عدد من الأطفال المتسولين بمراكز التدريب المهني التابعة لوزارة التنمية.

وأعربت العجلة عن أسفها لتوقف المشروع سالف الذكر في الوقت الحالي، وذلك بسبب تجدد جائحة كورونا، ثم بسبب تداعيات العدوان الأخير على غزة، بالإضافة إلى قلة الموارد المالية، كون المشروع يحتاج إلى تمويل لمعالجة الوضع الاقتصادي للأسرة المحتاجة.

وعبرت عن أملها في أن يُستأنف العمل بمشروع مكافحة التسول، وخاصة فئة الأطفال، كونهم الأكثر عرضة من غيرهم من فئات المجتمع لانتهاك حقوقهم وتعرضهم لمختلف أنواع العنف الجسدي والجنسي والنفسي، حسب تعبيرها.

دراسة ومعالجة

ومن الناحية التخصصية، فقد كان للدكتور ياسر أبو جامع مدير برنامج غزة للصحة النفسية، رأياً مقارباً لمدير عام وحدة شئون المرأة والأسرة بوزارة التنمية الاجتماعية، في اعتبار تسول البنات في قطاع غزة بأنه "ليس ظاهرة"، مرجعاً ذلك إلى سبب رئيسي، أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار تعداد سكان غزة الذي يزيد عن مليوني شخص في مساحة جغرافية صغيرة.

ويرى أبو جامع في حديثه لـ"زوايا" بأن وجود عدد من الأطفال وخصوصاً من البنات في بعض الأماكن المحدودة قد يعطي طابعاً بأن هذه ظاهرة، ولكن هي بالتأكيد ليست ظاهرة مقارنة بتعداد السكان.

وأوضح أن حالات التسول قد تظهر في بعض الأماكن في القطاع، وسببها الرئيسي الظروف المادية الصعبة والحاجة إلى المصروف المادي لأكثر مما هو متوفر للأسر، لافتاً إلى أنه قد يعزز هذا السلوك للأسف لدى الأسرة، أن المجتمع قد يكون متعاطفاً مع الفتيات منه مع الذكور، وبالتالي يكون ذلك مدعاة لاستغلال الفتيات في التسول، حيث أنهن يحصلن على تعاطف أكثر ويكون المرود المالي لتسول الفتيات أكثر من الأولاد.

وشدد على أنه يجب على السلطات المختصة اتباع الاجراءات الخاصة بحماية الأطفال من التسول ومكافحة هذه الآفة في كل مكان، حيث يجب على القائمين بانفاذ القانون أخذ الاجراءات اللازمة بوقف التسول.

 ولكنه أكد - نفس الوقت- على أنه يجب على الجهات المسؤولة البحث عن مصادر للعيش بكرامة للأسر الفلسطينية المختلفة، كما يجب علاج ضعف القدرة الاقتصادية والعائد المادي المتردي للأسر، مشيراً إلى أن هذه الأسر بحاجة إلى دراسة حالة و تدخل قائم على تعاون بين جهات مختلفة مثل وزارتي التنمية الاجتماعية والصحة وبرنامج غزة للصحة النفسية الذي يشغل إدارته.

كما ركز أبو جامع على الحاجة إلى التمكين الاقتصادي لأسر المتسولين، حيث أن هذا التمكين يعفي الأطفال من التعرض إلى هذا النوع من العمل في التسول، والذي يعرضهم إلى الكثير من المشكلات التي لا يحمد عقباها، وبالذات التحرش.

وتطرق أبو جامع إلى ما قال عنها طريقة جديدة يتم استخدامها كثيراً وهي "التسول الالكتروني"، وهذه الوسيلة معظم من يقوم بها البالغين من خلال التعاطف مع فلسطين وغزة، حيث يتم بناء علاقات مع الآخرين سواء في الداخل أو الخارج وبعدها يتم طلب مبلغ مادي بسيط لمرة واحدة ومن ثم يتم الاستجداء ليكون الدفع بشكل شهري أو موسمي.

كما عبر عن أسفه بأن ما سبق، ينقل صورة غير مناسبة عن المجتمع الفلسطيني، وقال "عندما نرى الأطفال وخاصة البنات يتسولن في الشوارع، بالتأكيد هذا منظر غير ضحي بالمطلق، فما بالنا من يتكسب من وراء التسول الالكتروني وقد يؤدي إلى اظهار المجتمع الفلسطيني بشكل غير جيد للمتعاطفين مع فلسطين وشعبها".

وعاد أبو جامع ليشدد، على أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار أن يكون هناك تدخل معمق يتم من خلاله تمكين الأسر اقتصادياً، والعمل على تقديم المعونة والاستشارات الاجتماعية والنفسية إذا كانت هذه الأسر، وخاصة الأطفال، بحاجة إلى نوع من هذا التدخل.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo