استقلالية موؤودة.. تغول السلطة التنفيذية على قضاء فلسطين

تظاهرات في الضفة الغربية
تظاهرات في الضفة الغربية

تخوض الجهات القانونية ومؤسسات المجتمع المدني، معركة شرسة من أجل ثني الرئيس محمود عباس عن قراراته الأخيرة المتعلقة بمؤسسة القضاء الفلسطيني، والتي وصفت بأنها "مساس خطير  باستقلالية القضاء".

ونفذت نقابة المحامين، ظهر اليوم الثلاثاء، اعتصاما حاشدا أمام مجلس القضاء الأعلى، ضمن فعاليات متواصلة منذ أسبوعين، رفضا للقرارات الرئاسية.

;

 

وتفجر غضب نقابة المحامين ومنظمات المجتمع المدني، بعدما أصدر الرئيس  عباس، في 11 كانون ثاني/يناير قرارات "لها قوة القانون" تضمنت تشكيل محاكم نظامية جديدة، وإنشاء قضاء إداري مستقل على درجتين، وتعديل قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002، كما أصدر قراراً بترقية عددٍ من القضاة، وإحالة 6 قضاة إلى التقاعد المبكر.

وفي اليوم التالي، قرر عباس تعيين القاضي عيسى أبو شرار (85 عاما) رئيسا للمحكمة العليا/محكمة النقض، رئيسا لمجلس القضاء الأعلى.

وترى نقابة المحامين والمنظمات الحقوقية والمدنية، أن القرارات الجديدة "تقوض استقلال القضاء"، ودعت إلى "إلغائها والعمل على إصلاح القضاء وتطويره بما يحفظ استقلاله"، كما جاء في بيانهم الأسبوع الماضي.

 

ولاقى قرار تعيين أبو شرار انتقادات واسعة من مسؤولين وقانونيين فلسطينيين، ومن نقابة المحامين التي طالبت برحيله عن المنصب، وسط مخاوف من أن تبقى المؤسسة القضائية في عهده رهينة رغبات السلطة التنفيذية، بما يشكل تهديدا لمبدأ "الفصل بين السلطات" .

ورغم هذا التنديد يصر المسؤولون بالسلطة على تدوير التصريحات المنادية باستقلالية القضاء، لا سيما ما صدر عن رئيس الوزراء محمد اشتية، في تصريحات متلفزة الخميس الماضي، معتبرا فيها أن المراسيم الرئاسية "مفيدة في العديد من الجوانب المشرقة (...) الأساس ألا نبقى على القوانين القديمة التي تعطل القضاء".

وتشير الوقائع إلى ما هو عكس ذلك، حيث تتضح معالم "تعطيل القضاء" في امتناع الأجهزة الامنية عن تنفيذ القرارات القضائية بالإفراج عن ناشطين، اعتقلوا تعسفا على خلفية حرية الرأي والتعبير.

وإلى جانب إجراءات توقيف نشطاء بشكل غير قانوني من قبل النيابة العامة، تمارس السلطة التنفيذية التضييق على القضاة المستقلين، الذين يؤدون مهامهم بدون انقياد إلى تعليماتها، في حالة انهيار حقيقية للمؤسسة القضائية، كما وصفها الخبير القانوني والحقوقي د. عصام عابدين، خلال حديثه لموقع "زوايا".

معالم الانهيار

ويشير عابدين، إلى أن معالم هذا الانهيار، باتت تشوب القضاء الفلسطيني، وتضع عدالته في مهب رياح السلطة التنفيذية، وما يتبعها من أجهزة.

ويقول عابدين، إن التدهور الذي يصيب القضاء الفلسطيني، لم يسبق له مثيل في تاريخ السلطة الفلسطينية منذ نشأتها.

الخبير في الشؤون القانونية والحقوقية د. عصام عابدين

ويلفت عابدين إلى تعمق الانهيار بشكل كبير بمؤسسة القضاء في العامين الأخيرين، وعلى وجه الخصوص منذ انفراد السلطة التنفيذية بتشكيل مجلس القضاء الأعلى الانتقالي عام 2019، خلافا للقانون والدستور، على حد تعبيره.

وبحسب عابدين، فإن هذا التدهور الحاصل في القضاء يقع في إطار الأزمة العميقة التي تعصف بالنظام السياسي الفلسطيني ككل، نتيجة عوامل مركبة ناجمة عن غياب المجلس التشريعي، حيث أصبحت السلطة التنفيذية هي المشرع والمنفذ في ذات الوقت، وهذا أدى إلى حالة تفرد بالقرار القضائي غير مسبوقة في تاريخ السلطة.

وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد قرر في تموز/يوليو 2019، حل مجلس القضاء الأعلى، وإنشاء مجلس انتقالي لمدة عام، وجاء القرار مفاجئا، دون معرفة السلطة القضائية به، فضلا عن قرار آخر بتخفيض سنّ تقاعد القضاة إلى الستين.

وفي حزيران/يونيو الماضي، أعلن عباس تمديد عمل مجلس القضاء الأعلى الانتقالي لمدة ستة أشهر إضافية.

وأثارت هذه الخطوات حفيظة مجتمع العدالة، ورافقها ردود نقابية وحقوقية عدة، طالبت في مجملها بوضع حد لتغول السلطة التنفيذية على القضاء.

وبموجب هذين القرارين أحيل ربع القضاة إلى التقاعد، على نحو مُباغت، وبخاصة قضاة المحكمة العليا (35 قاضياً)، الذين لم يتبقَ منهم أحد، إلى جانب إحالة قضاة في محاكم الاستئناف ومحاكم البداية للتقاعد، وحل كافة هيئات المحكمة العليا الفلسطينية ومحاكم الاستئناف.

ومنح الرئيس الفلسطيني مجلس القضاء الأعلى الانتقالي صلاحيات واسعة جدا، خلافاً للقانون الأساسي وقانون السلطة القضائية، من شأنها أن تفتح المجال لإمكانية الاستغناء عن المزيد من القضاة داخل السلطة القضائية.

هذه القرارات جاءت بعد مرور سبعة أشهر من قيام المحكمة الدستورية العليا بحل المجلس التشريعي الفلسطيني في 23 كانون أول/ ديسمبر 2018. وبذلك، تركزت جميع السلطات في يد السلطة التنفيذية ممثلة بمؤسسة الرئاسة.

ويرى عابدين أن السيطرة على القضاء تتم من خلال السيطرة على إدارته، وفرض أجواء بوليسية حتى داخل مجلس القضاء نفسه.

وأشار الخبير القانوني إلى أن مجلس القضاء الأعلى (الانتقالي) أحال عددا من القضاة للتقاعد خلافا للدستور والقانون، وبالتعاون مع السلطة التنفيذية، موضحا أن فحص هذه الحالات يبين أن "المحالين انتقدوا الوضع المتردي الحاصل في السلطة القضائية".

كما لفت عابدين إلى وجود تعميمات تصل إلى القضاة تنتهك الدستور والقانون، ومن هؤلاء القضاة من تعرض إلى العقوبات، وأحيل للتحقيق والتأديب، على خلفية انتقاد الأداء المتردي للقضاء.

الامتناع عن تنفيذ قرارات قضائية

في المقابل، فإن تصريحات السلطة التنفيذية عن أهمية القضاء في الدولة، تحاول الإيحاء بطابع مغاير لهذه الإجراءات الموصوفة بأنها "تعد من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية".

وكان رئيس الحكومة محمد اشتية، قد أكد خلال جولة له في وزارة العدل منتصف كانون أول/ديسمبر الماضي، على أن "مصداقية أي دولة في العالم تعتمد على القضاء، ونحن حريصون على أهمية استقلال القضاء، وسنواصل مسيرتنا في إصلاح الجهاز القضائي في فلسطين".

يذكر أن قانون السلطة القضائية الفلسطينية ينص في الباب الأول المادة (1) على أن "السلطة القضائية مستقلة، ويحظر التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة". وفي المادة (2) "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون".

لكن الوقائع لم تسعف هذه التصريحات والقوانين كثيرا، إذ توالت أحداث تشير إلى أن السلطة القضائية في فلسطين لا تتمتع بالاستقلالية على النحو الذي تحدث عنه رئيس الحكومة اشتية.

ومن هذه الأحداث كان رفض الأجهزة الأمنية الإفراج عن الناشط نزار بنات، المحتجز على خلفية التعبير عن رأيه، وذلك رغم صدور قرار قضائي بإخلاء سبيله. وتكررت الحادثة ذاتها مع الناشط صهيب زاهدة.

الناشط نزار بنات

الخبير القانوني ماجد العاروري، اعتبر هذه الأحداث، "مسا خطيرا بهيبة السلطة القضائية، ويظهر أن القضاة غير محمين، حين يطالبون بتنفيذ القانون".

وأوضح الخبير القانوني العاروري في حديثه لموقع "زوايا" أن رفض الأجهزة الأمنية تنفيذ أمر قضائي هو "مخالفة صريحة للمادة ١٠٦ من القانون الأساسي، ويعد جريمة دستورية تستوجب الحبس والعزل من الوظيفة".

وفي ذات السياق، سلط قانونيون الضوء على قضية أخرى تخل بمؤسسة العدالة، وهي "التوقيف الذي يستخدم من النيابة العامة ومن القضاة"، خلافا للدستور والقانون، حيث يتم توقيف مواطنين على خلفية حرية التعبير، بشكل غير قانوني.

وتشير الأحداث إلى أن النيابة توقف المواطنين، والقضاة يمددون التوقيف، مما أفقد الأولى دورها في حراسة العدالة، وأفقد القضاة استقلاليتهم، وفقا لخبراء تحدثوا لموقع "زوايا".

مسارات الإصلاح

ورغم أن حالة الانهيار الماثلة، إلا أن خيارت الإصلاح ما تزال قائمة، بحسب الخبير الحقوقي د. عصام عابدين، الذي أوضح أن ذلك يتطلب العمل في ثلاث مسارات.

وأول هذه المسارات: وقف حالة الطوارئ المستمرة على نحو غير قانوني.

وفي إطار إجراءات مواجهة تفشي فيروس كورونا، أعلن الرئيس عباس حالة الطوارئ لأول مرة في 3 مارس/ آذار الماضي، لمدة 30 يوما، ويتم تجديدها منذ ذلك الوقت.

والمسار الثاني: الشروع بإصلاحات جدية في القضاء، وإنهاء صلاحية المجلس القضائي الانتقالي.

والمسار الثالث، يتمثل في إجراء الانتخابات العامة لتجديد الحالة التشريعية والقانونية والمؤسسية للدولة الفلسطينية.

لا انتخابات بدون توحيد القضاء

من جانبه، أكد رئيس تجمع الشخصيات المستقلة في الضفة الغربية خليل عساف، أن الانقسام الفلسطيني أصاب القضاء الفلسطيني في مقتل، وأفرز جسمين قضائيين، واحد في الضفة الغربية، وآخر في قطاع غزة. والأصل أن يكون لدينا جسم قضائي واحد وفقاً للدستور الفلسطيني (القانون الأساسي).

وشدد عساف، على أن السلطة التنفيذية تغولت على القضاء، بطريقة غريبة عجيبة، وكان هناك محاولات ولا زالت لتوريط القضاء في قضايا الانقسام والخلافات بين حركتي فتح وحماس، رغم محاولات الكثير من القضاة "تحييد هذا الجسم عن الخلافات".

وعزا عساف في حديث مع موقع "زوايا" وجود جسمين للقضاء في الضفة والقطاع إلى الانقسام بين الفصائل الفلسطينية، مشدداً على ضرورة وقف هذه الحالة، وأن يتم العمل على توحيد مجلس القضاء وجعله مجلسا واحدا، قبل الذهاب للانتخابات التشريعية والرئاسية التي يجري الحديث عنها.

وقال: "أستبعد إمكانية الوثوق بإجراء أي انتخابات قادمة، إذا بقي واقع القضاء الفلسطيني على حاله دون إصلاح".

وفي ظل الحديث عن نوايا إيجابية بين حركتي فتح وحماس لإنهاء الانقسام، برعاية دولية، يبرز التساؤل حول مدى التزام السلطة التنفيذية بالقانون الفلسطيني والحفاظ على استقلالية القضاء.

المصدر : رام الله/ خاص زوايا
atyaf logo